لقد فرضت مصر، شأنها شأن باقي بلدان الشّرق، لا بل أكثر منها جميعاً، سطوتها على خيال غوتييه قبل رحلته إليها بعقودٍ عديدة، وأثناء الرّحلة وفي أعقابها. كتب عنها وشعرَ بشوقٍ عارمٍ إليها قبل أن تطأها قدماه، وذلك من خلال ما شاهده من إبداع أبنائها في المعرض الدوليّ الذي أقيم في باريس سنة 1867، وفي المتاحف والغاليريّات، وما عرفه عنها بفضل قراءاته الشرقيّة والاستشراقية الواسعة. وعندما بلغها بعد طولِ انتظار وحنين وشغف، شاءت الأقدار أن يتعرّض لحادث حوّلَ رحلته، هو المشّاء الكبير الذي كان يعوّل على نظراته بقدر ما كان يعوّل على ثقافته، نقول حوّلَها إلى «سفرٍ ثابت». ذلك أنّ إحدى ذراعيه قد تعرّضت على متن السّفينة إلى الكسر، ما اضطره لمداراة ذراعه المجبّرة، إلى الاكتفاء بالتطلّع إلى المدينة التي كانت تستقطب كلّ أحلامه من شرفة فندق شِبَرْد حيث أقام. بيد أنّ هذا اللّقاء المفوّت لم يكن كذلك بكامله. فقريحة الكاتب وذكرياته عن مصر، التي لطالما رآها في أحلامه وقراءاته، وقدرته على استشراف طبائع أهل البلاد من خلال أدنى تجلّياتها، وبفضل أبسط محادثة، هذا كلّه مكّنه من أن يعوّض نسبيّاً عدم اقتداره على الحركة، جائلاً في طول القاهرة وعرضها، كما كان دأبه في سائر رحلاته. ثمّ إنّ الكتاب المترجَم ههنا، يقدّم للقارئ تعويضاً آخر بفضلِ ما يحتويه ملحقه من مقالات عن عدّة أعمالٍ أدبيّة وفنيّة مكرّسة لمصر، كان غوتييه قد كتبها في فترات مختلفة، وجمعها الباحث الإيطاليّ بابلو تورتونيزه.